تمهيد :
مقطع من رواية خفة الكائن التى لا تحتمل للروائى التشيكى العبقرى ميلان كونديرا
عندما كنت صغيرا وفيما كنت أتصفح كتاب العهد القديم الذى أعد للأطفال والمزين بصور ، كنت أرى الرب فيها طائرا فوق غيمة . كان رجلا عجوزا له عينان وأنف ولحية طويلة ، وكنت أقول فى نفسى إنه ما دام له فم فيفترض به إذا أن يأكل ، وإذا كان يأكل فهذا يعنى أن له أمعاء . ولكن هذه الفكرة كانت ترعبنى فى الحال . ومع أنى كنت من أسرة ملحدة إلا أننى كنت أشعر أن هذه الفكرة المتعلقة بالأمعاء فكرة تجديفية ومن دون أى إعداد لاهوتى كان الطفل الذى كنته آنذاك يفهم بشكل عفوى أن هناك تناقضا بين الدونيات وبين الله ، وكنت أفهم بالتالى هشاشة الفرضية الأساسية لعلم الإناسة المسيحى والتى تقول أن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله كان الغنوصيون القدامى يعون هذه المسألة جيدا ، ولكى تحسم هذه المسألة اللعينة ، كان فالنتين ، وهو أستاذا كبيرا للغنوصية فى القرن الثانى ، يؤكد أن المسيح كان يأكل ويشرب ولكنه لم يكن يتغوط البراز إذا هو مسألة لاهوتية أكثر صعوبة من مسألة الشر ، فالله قد أعطى الحرية للإنسان وبذلك يمكننا أن نسلم بأن الله ليس مسئولا عن جرائم البشر فى القرن الرابع كان القديس جيروم يرفض جذريا أن يكون أدم وحواء قد تمكنا من ممارسة الجنس عندما كانا فى الجنة ، خلافا لذلك كان جان سكوت إيرجين يسلم بهذه الفكرة . ولكن حسب رأيه كان بإمكان أدم أن يجعل عضوه ينتصب بالطريقة نفسها تقربيا التى يرفع فيها ذراعه أو ساقه ، إذا ساعة يشاء وكيفما يشاء . وذلك معناه إذا كان عضو الذكر يقوى على الإنتصاب بمجرد إيعاز من الدماغ ، ينتج عن ذلك أن بإمكانه الاستغناء عن الإثارة ، ذلك لأن العضو لا ينتصب لإهتياج المرء وإنما لأنه يأمره بذلك . كان هذا اللاهوتى يعتقد أن الشئ الذى لا يتفق والجنة ليس الجماع ولا اللذة التى تعقبه ، وإنما الإثارة . فلنحفظ هذا جيدا : كانت اللذة موجودة فى الجنة لا الإثارة نستطيع أن نجد من خلال نظرية سكوت مفتاحا لتبرير لاهوتى للبراز . طيلة الفترة التى سمح للإنسان فيها أن يسكن الجنة إما أنه( تماما كالمسيح حسب نظرية فالنتين ) لم يكن يتغوط ، وإما أن البراز لم يكن يعتبر شيئا كريها ، وهذه الفرضية أكثر قابلية للتصديق . حين طرد الله الإنسان من الجنة أوحى له بطبيعته النجسة وبالقرف ، وأخذ الإنسان يستر ما كان يشعره بالعار ، وما أن أزاح الحجاب حتى بهره ضوء عظيم . إذا بعد أن أكتشف الإنسان الدنس أكتشف فى الوقت نفسه الإثارة ، فمن دون البراز ، بالمعنى الحرفى والمجازى للكلمة ، لما كان الحب الجنسى كما نعرفه : تصحبه دقات فى القلب وعمى فى الحواس فى أساس المعتقدات الأوربية كلها سواء كانت دينية أو سياسية ، هناك دائما الفصل الأول من سفر التكوين والذى يتفرع منه أن العالم خلق كما يفترض به أن يكون ، وأن الكائن طيب ، وأن التناسل أمر محمود. فلنسم هذا الإعتقاد الجوهرى ( الوفاق التام مع الكائن ) إذا كانت كلمة براز يستعاض عنها حاليا فى الكتب بنقط ، فهذا ليس لأسباب أخلاقية . يجب ألا نذهب إلى حد الادعاء بأن البراز شئ مناف للأخلاق فالخلاف مع البراز خلاف ميتافيزيقى . هناك أمر من أمرين : إما أن البراز شئ مقبول ( إذن لا تقفلوا على أنفسكم بالمفتاح وأنتم بالمراحيض ) وأما أن الطريقة التى خلقنا بها تثير جدلا .ينتج عن ذلك أن الوفاق التام مع الكائن يتخذ مثاله الأعلى عالما ينتفى منه البراز ، ويتصرف كل واحد فيه وكأن البراز غير موجود : هذا المثال الجمال يدعى " الكيتش " كيتش هى كلمة ألمانية ظهرت فى أواسط القرن التاسع عشر العاطفى ، ثم انتشرت بعد ذلك فى جميع اللغات ، ولكن استعمالها بكثرة أزال دلالتها الميتافيزيقية الأصلية وهى : كلمة كيتش فى الأساس نفى مطلق للبراز وبالمعنى الحرفى كما بالمعنى المجازى " كيتش " تطرح جانبا كل ما هو غير مقبول فى الوجود الإنسانى
عذرا على الإطالة فى الإقتباس من كونديرا
توضح الفقرة السابقة الأساس الذى ينبنى عليه أى حلم يوتوبى ـ جنة ـ حلمت به البشرية من قبل وهوأساس عاطفى لا عقلانى ينزع عن الوجود الإنسانى بعض من مكوناته التى يراها غير مقبولة، بحسب هذه الجنةـ الحلم ـ الكيتش إذن لكل إيديولوجيا دينية كانت أو سياسية كيتشها الخاص ، وبالتالى لها جحيمها الخاص الذى يتم فيه نفى كل مالايتوافق مع هذه الإندفاعة العاطفية الجامحة نحو الحلم الفردوسى . وعلى ذلك نجد الكيتش الإسلامى ، والكيتش المسيحى ، والكيتش الشيوعى ، والكيتش الليبرالى ، الكيتش القوموى ، الكيتش التنويرى ، الكيتش الإلحادى . كل يصنع فردوسه الخاص ، ويصنع جحيمه الخاص . ما يهمنى هنا هو الكيتش الإلحادى ، حيث يتوهم الملحدين أنهم عقلانيين ، وبعيدين تماما عن الإندفاعات العاطفية فى الأحكام ورؤية العالم ، بينما الأمر ليس كذلك للأسف فأغلب الملحدين ( خاصة الذين يحلمون بتأسيس مملكة الإلحاد المقدس ! ) تأسرهم ألية الكيتش اللاشعورية فتراهم يصنعون جنة رائعة يوتوبيا منيرة للإنسانية التعيسة تحت ظلال الإلحاد ، وكل من لا يأمل أو يدفع فى عجلة المضى نحو هذه الجنة هو ليس ملحدا بكل تأكيد ! أو هو له أغراض أنانية دنيئة ، أو على الأقل تافه سخيف لأنه لا يحمل مشاعل التنوير المقدسة من أجل ذلك الحلم ، التوهم الأكبر أنهم يرون الواقع بحسب ما يريدون ، أو لا يرون إلا ما يريدونه منه ، فلا ملحدين لا أخلاقيين ، ولا عبثيين ولا مدمرين ، ولا عدميين ، وإن وجدوا فلابد أن يعمل الكيتش على طردهم فورا إلى جحيم الملحدين ، ليظل الكيتش على نقاءه الأسطورى . من النقاط المربكة للملحدين مقولة الأخلاق ، وهم إزاءها ينقسمون إلى فريقين : الأحرار ، يرون أنه لا منظومة واحدة ملزمة وعامة للجميع . الكيتشيون : يندفعون نحو محاولة تأسيس مضحكة ( مثال يرى الإنسانيين أن الإنسان كائن طيب بطبعه ، لأنه يمتلك ذكاء ، ولأنه يتغذى على النباتات ! وبالتالى فاللاأخلاقيين هم ضد طبيعة الإنسان ! ) طبعا لا تعليق أما التنويريين فيرون بشكل مسبق أن ما توصلوا إليه من معارف عقلية ( ينسون أنها تأويلات ليس أكثر ) من مسميات الحق والخير والجمال هى مطلقات إنسانية تصلح لكل زمان ولكل مكان وبالتالى فهى تصبح قواعد تأسيسية يتم على أساسها تحديد من هو ظلامى ، ومن هو تنويرى وطبعا يمكنك أن تضع بدلا من الكلمتين السابقتين سئ ، نبيل ، أو شرير وخيّر !